فصل: تفسير الآية رقم (40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (40):

{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} تَقَدَّمَ مَا يُوَضِّحُ هَذِهِ الْآيَةَ مِنَ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} [9/ 74].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} بَيَّنَ اللَّهُ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ أَقْسَمَ لَيَنْصُرَنَّ مَنْ يَنْصُرُهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ نَصْرَ اللَّهِ إِنَّمَا هُوَ بِاتِّبَاعِ مَا شَرَّعَهُ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ وَنُصْرَةِ رُسُلِهِ وَأَتْبَاعِهِمْ، وَنُصْرَةِ دِينِهِ وَجِهَادِ أَعْدَائِهِ وَقَهْرِهِمْ حَتَّى تَكُونَ كَلِمَتُهُ- جَلَّ وَعَلَا- هِيَ الْعُلْيَا، وَكَلِمَةُ أَعْدَائِهِ هِيَ السُّفْلَى، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ- جَلَّ وَعَلَا- بَيَّنَ صِفَاتِ الَّذِينَ وَعَدَهُمْ بِنَصْرِهِ لِتَمْيِيزِهِمْ عَنْ غَيْرِهِمْ فَقَالَ مُبَيِّنًا مَنْ أَقْسَمَ أَنَّهُ يَنْصُرُهُ؛ لِأَنَّهُ يَنْصُرُ اللَّهَ- جَلَّ وَعَلَا-: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} الْآيَةَ [22/ 41] وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ: مِنْ أَنَّ مَنْ نَصَرَ اللَّهَ نَصَرَهُ اللَّهُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [47/ 7- 8] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [37/ 171- 173] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [58/ 21] وَقَوْلِهِ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} الْآيَةَ [24/ 55]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} الْآيَةَ [22/ 41]، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا وَعْدَ مِنَ اللَّهِ بِالنَّصْرِ، إِلَّا مَعَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَالَّذِينَ يُمَكِّنُ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَيَجْعَلُ الْكَلِمَةَ فِيهَا وَالسُّلْطَانَ لَهُمْ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَلَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، وَلَا يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَلَيْسَ لَهُمْ وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ بِالنَّصْرِ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ حِزْبِهِ، وَلَا مِنْ أَوْلِيَائِهِ الَّذِينَ وَعَدَهُمْ بِالنَّصْرِ، بَلْ هُمْ حِزْبُ الشَّيْطَانِ وَأَوْلِيَاؤُهُ، فَلَوْ طَلَبُوا النَّصْرَ مِنَ اللَّهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ وَعَدَهُمْ إِيَّاهُ، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الْأَجِيرِ الَّذِي يَمْتَنِعُ مِنْ عَمَلِ مَا أُجِرَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَطْلُبُ الْأُجْرَةَ، وَمَنْ هَذَا شَأْنُهُ فَلَا عَقْلَ لَهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [22/ 40] الْعَزِيزُ الْغَالِبُ الَّذِي لَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ خِلَافَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ نَصَرَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، لِأَنَّهُمْ نَصَرُوهُ فَأَقَامُوا الصَّلَاةَ، وَآتَوُا الزَّكَاةَ، وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَقَدْ مَكَّنَ لَهُمْ، وَاسْتَخْلَفَهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا قَالَ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} الْآيَةَ [24/ 55]، وَالْحَقُّ أَنَّ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةَ تَشْمَلُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُلَّ مَنْ قَامَ بِنُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

.تفسير الآيات (42-44):

{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44)}:
قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الَّذِي عَامَلَهُ بِهِ قَوْمُهُ مِنَ التَّكْذِيبِ عُومِلَ بِهِ غَيْرُهُ مِنَ الرُّسُلِ الْكِرَامِ، وَذَلِكَ يُسَلِّيهِ وَيُخَفِّفُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} الْآيَةَ [11/ 120]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [41/ 43] وَقَوْلِهِ: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} الْآيَةَ [35/ 4] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ سَبْعَ أُمَمٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمْ كَذَّبَتْ رَسُولَهَا.
الْأُولَى: قَوْمُ نُوحٍ فِي قَوْلِهِ: {فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} [22/ 42] وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى تَكْذِيبِ قَوْمِ نُوحٍ لَا تَكَادُ تُحْصَى فِي الْقُرْآنِ، لِكَثْرَتِهَا وَلْنَقْتَصِرْ عَلَى الْأَمْثِلَةِ لِكَثْرَةِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى تَكْذِيبِ هَذِهِ الْأُمَمِ رُسُلَهَا كَقَوْلِهِ: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [26/ 105] وَقَوْلِهِ: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [54/ 9] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

الثَّانِيَةُ: عَادٌ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا رَسُولَهُمْ هُودًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [26/ 123] وَقَوْلِهِ: {قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [11/ 53].
الثَّالِثَةُ: ثَمُودُ وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ تَكْذِيبَهُمْ لِنَبِيِّهِمْ صَالِحٍ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [26/ 141] وَقَوْلِهِ: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} [91/ 14] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
الرَّابِعَةُ: قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُمْ كَذَّبُوهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} [29/ 24] وَقَوْلِهِ: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} الْآيَةَ [21/ 68]، وَكَقَوْلِهِ: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [19/ 46] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
الْخَامِسَةُ: قَوْمُ لُوطٍ وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُمْ كَذَّبُوهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ؛ كَقَوْلِهِ: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} [26/ 160] وَقَوْلِهِ: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} الْآيَةَ [27/ 56]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
السَّادِسَةُ: أَصْحَابُ مَدْيَنَ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ كَذَّبُوا نَبِيَّهُمْ شُعَيْبًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: {أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [11/ 95] وَقَوْلِهِ: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِلَى قَوْلِهِ:
{قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [11/ 84- 87] وَقَوْلِهِ: {قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} الْآيَةَ [11/ 91]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
السَّابِعَةُ: مَنْ كَذَّبُوا مُوسَى وَهُمْ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ كَذَّبُوا مُوسَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ؛ كَقَوْلِهِ: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [26/ 29] وَقَوْلِهِ: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [26/ 18- 19] وَقَوْلِهِ: {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [7/ 132] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [22/ 44] قَدْ بَيَّنَ تَعَالَى نَوْعَ الْعَذَابِ الَّذِي عَذَّبَ بِهِ كُلَّ أُمَّةٍ مِنْ تِلْكَ الْأُمَمِ، بَعْدَ الْإِمْلَاءِ لَهَا وَالْإِمْهَالِ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ أَهْلَكَ قَوْمَ نُوحٍ بِالْغَرَقِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [29/ 14] وَقَوْلِهِ: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [54/ 11- 12] وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} [26/ 120] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ بَعْدَ الْإِمْلَاءِ وَالْإِمْهَالِ لِعَادٍ أَهْلَكَهُمْ بِالرِّيحِ الْعَقِيمِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ الْآيَاتِ} [69/ 6] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [54/ 41- 42] وَقَوْلِهِ: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [46/ 24- 25] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ أَهْلَكَ ثَمُودَ بِصَيْحَةٍ أَهْلَكَتْهُمْ جَمِيعًا؛ كَقَوْلِهِ فِيهِمْ: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [11/ 67] وَقَوْلِهِ: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ} الْآيَةَ [41/ 17] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ هُمْ نُمْرُوذُ، وَقَوْمُهُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ الْعَذَابَ الدُّنْيَوِيَّ الَّذِي أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِهِ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} [16/ 26] وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ أَهْلَكَ قَوْمَ لُوطٍ بِجَعْلِ عَالِي أَرْضِهِمْ سَافِلَهَا، وَأَنَّهُ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ مَطَرًا مِنْ حِجَارَةِ السِّجِّيلِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ كَقَوْلِهِ؛ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [11/ 82] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ أَهْلَكَ أَصْحَابَ مَدْيَنَ بِالصَّيْحَةِ فِي مَوَاضِعَ؛ كَقَوْلِهِ فِيهِمْ: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [11/ 94- 95] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَقَدْ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ أَهْلَكَ الَّذِينَ كَذَّبُوا مُوسَى، وَهُمْ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ بِالْغَرَقِ كَقَوْلِهِ: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} [44/ 24] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} الْآيَةَ [20/ 78] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [10/ 90] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْآيَاتِ كَثِيرَةٌ فِي بَيَانِ مَا أُهْلِكَتْ بِهِ هَذِهِ الْأُمَمُ السَّبْعُ الْمَذْكُورَةُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا قَلِيلًا مِنْهَا كَالْمِثَالِ لِغَيْرِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُوَضِّحُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ تَكْذِيبَ الْأُمَمِ السَّبْعِ لِأَنْبِيَائِهِمْ: {فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} [22/ 44] أَيْ: بِالْعَذَابِ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا بَعْضَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى تَفَاصِيلِهِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ النَّكِيرُ: اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ أَيْ: كَيْفَ كَانَ إِنْكَارِي عَلَيْهِمْ مُنْكَرَهُمْ، الَّذِي هُوَ كُفْرُهُمْ بِي، وَتَكْذِيبُهُمْ رُسُلِي، وَهُوَ ذَلِكَ الْعَذَابُ الْمُسْتَأْصِلُ الَّذِي بَيَّنَّا وَبَعْدَهُ عَذَابُ الْآخِرَةِ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ نَرْجُو اللَّهَ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ الْعَافِيَةَ مِنْ كُلِّ مَا يُسْخِطُ خَالِقَنَا، وَيَسْتَوْجِبُ عُقُوبَتَهُ، وَالْجَوَابُ إِنْكَارُكَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ الْعَذَابِ وَاقِعٌ مَوْقِعَهُ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَجَزَاءُ الْعَمَلِ الْبَالِغِ غَايَةَ الْقُبْحِ بِالنَّكَالِ الْعَظِيمِ جَزَاءَ وِفَاقٍ وَاقِعٍ مَوْقِعَهُ، فَسُبْحَانَ الْحَكِيمِ الْخَبِيرِ الَّذِي لَا يَضَعُ الْأَمْرَ إِلَّا فِي مَوْضِعِهِ وَلَا يُوقِعُهُ إِلَّا فِي مَوْقِعِهِ، وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ وَرْشٌ وَحْدَهُ عَنْ نَافِعٍ: فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ بِيَاءِ الْمُتَكَلِّمِ بَعْدَ الرَّاءِ وَصْلًا فَقَطْ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِحَذْفِهَا اكْتِفَاءً بِالْكَسْرَةِ عَنِ الْيَاءِ.

.تفسير الآية رقم (45):

{فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ أَهْلَكَ كَثِيرًا مِنَ الْقُرَى فِي حَالِ كَوْنِهَا ظَالِمَةً أَيْ: بِسَبَبِ ذَلِكَ الظُّلْمِ، وَهُوَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ وَتَكْذِيبُ رُسُلِهِ، فَصَارَتْ بِسَبَبِ الْإِهْلَاكِ وَالتَّدْمِيرِ دِيَارُهَا مُتَهَدِّمَةٌ وَآبَارُهَا مُعَطَّلَةٌ، لَا يَسْقِي مِنْهَا شَيْءٌ لِإِهْلَاكِ أَهْلِهَا الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَقُونَ مِنْهَا.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} [65/ 8- 10] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [11/ 102] وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ ثُمَّ قَرَأَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [11/ 102] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [22/ 45] الْعُرُوشُ السُّقُوفُ وَالْخَاوِيَةُ السَّاقِطَةُ وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ:
كَانَ أَبُو حَسَّانَ عَرْشًا خَوَى ** مِمَّا بَنَاهُ الدَّهْرُ دَانٍ ظَلِيلُ

وَالْمَعْنَى: أَنَّ السُّقُوفَ سَقَطَتْ ثُمَّ سَقَطَتْ عَلَيْهَا حِيطَانُهَا عَلَى أَظْهَرِ التَّفْسِيرَاتِ، وَالْقَصْرُ الْمَشِيدُ الْمَطْلِيُّ بِالشِّيدِ بِكَسْرِ الشِّينِ، وَهُوَ الْجِصُّ، وَقِيلَ الْمَشِيدُ: الرَّفِيعُ الْحَصِينُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [4/ 78] أَيْ: حُصُونٍ رَفِيعَةٍ مَنِيعَةٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ مَعْطُوفٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَيْ: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا، وَكَمْ مِنْ بِئْرٍ عَطَّلْنَاهَا بِإِهْلَاكِ أَهْلِهَا، وَكَمْ مِنْ قَصْرٍ مَشِيدٍ أَخْلَيْنَاهُ مِنْ سَاكِنِيهِ، وَأَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا كَفَرُوا وَكَذَّبُوا الرُّسُلَ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا: تَهْدِيدٌ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَحْذِيرٌ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مَا نَزَلَ بِتِلْكَ الْقُرَى مِنَ الْعَذَابِ لَمَّا كَذَّبَتْ رُسُلَهَا.
تَنْبِيهٌ:
يَظْهَرُ لِطَالِبِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا يَدُلُّ عَلَى تَهَدُّمِ أَبْنِيَةِ أَهْلِهَا، وَسُقُوطِهَا وَقَوْلُهُ: وَقَصْرٍ مَشِيدٍ يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ أَبْنِيَتِهَا قَائِمَةً مُشَيَّدَةً.
قَالَ مُقَيِّدُهُ- عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ-: الظَّاهِرُ لِي فِي جَوَابِ هَذَا السُّؤَالِ: أَنَّ قُصُورَ الْقُرَى الَّتِي أَهْلَكَهَا اللَّهُ، وَقْتَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْهَا مَا هُوَ مُتَهَدِّمٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَمِنْهَا مَا هُوَ قَائِمُ بَاقٍ عَلَى بِنَائِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} وَإِنَّمَا اسْتَظْهَرْنَا هَذَا الْجَمْعَ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَيْهِ، وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ- جَلَّ وَعَلَا- فِي سُورَةِ هُودٍ: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} [11/ 100] فَصَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ مِنْهَا قَائِمًا، وَمِنْهَا حَصِيدًا.
وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ وَأَجْرَاهَا عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ: أَنَّ الْقَائِمَ هُوَ الَّذِي لَمْ يَتَهَدَّمْ، وَالْحَصِيدَ هُوَ الَّذِي تَهَدَّمَ وَتَفَرَّقَتْ أَنْقَاضُهُ، وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُهُ:
وَالنَّاسُ فِي قِسْمِ الْمَنِيَّةِ بَيْنَهُمْ ** كَالزَّرْعِ مِنْهُ قَائِمٌ وَحَصِيدُ

وَفِي مَعْنَى الْقَائِمِ وَالْحَصِيدِ، أَقْوَالٌ أُخَرُ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا، وَلَكِنْ مَا ذَكَرْنَا هُوَ أَظْهَرُهَا، وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ وَجْهٌ آخَرُ لِلْجَمْعِ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {خَاوِيَةٌ}: خَالِيَةٌ مِنْ أَهْلِهَا مِنْ قَوْلِهِ: خَوَى الْمَكَانُ إِذَا خَلَا مِنْ أَهْلِهِ، وَأَنَّ مَعْنَى: {عَلَى عُرُوشِهَا}: أَنَّ الْأَبْنِيَةَ بَاقِيَةٌ أَيْ: هِيَ خَالِيَةٌ مِنْ أَهْلِهَا مَعَ بَقَاءِ عُرُوشِهَا قَائِمَةً عَلَى حِيطَانِهَا، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا هُوَ الصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَأَمْثَالُهَا فِي الْقُرْآنِ: أَنَّ لَفْظَ الْقَرْيَةِ يُطْلَقُ تَارَةً عَلَى نَفْسِ الْأَبْنِيَةِ، وَتَارَةً عَلَى أَهْلِهَا السَّاكِنِينَ بِهَا، فَالْإِهْلَاكُ فِي قَوْلِهِ: أَهْلَكْنَاهَا، وَالظُّلْمُ فِي قَوْلِهِ: وَهِيَ ظَالِمَةٌ: يُرَادُ بِهِ أَهْلُهَا السَّاكِنُونَ بِهَا وَقَوْلُهُ: فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا يُرَادُ بِهِ الْأَبْنِيَةُ كَمَا قَالَ فِي آيَةِ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [12/ 82] وَقَالَ فِي أُخْرَى: {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} [18/ 77].
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي رِسَالَتِنَا الْمُسَمَّاةِ مَنْعَ جَوَازِ الْمَجَازِ فِي الْمَنْزِلِ لِلتَّعَبُّدِ وَالْإِعْجَازِ: أَنَّ مَا يُسَمِّيهِ الْبَلَاغِيُّونَ مَجَازَ النَّقْصِ، وَمَجَازَ الزِّيَادَةِ، لَيْسَ بِمَجَازٍ حَتَّى عِنْدَ جُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِالْمَجَازِ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، وَأَقَمْنَا الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَكَائِنٌ بِأَلِفٍ بَعْدِ الْكَافِ، وَبَعْدَ الْأَلْفِ هَمْزَةٌ مَكْسُورَةٌ، فَنُونٌ سَاكِنَةٌ وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ: وَكَأَيِّنْ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَ الْكَافِ بَعْدَهَا يَاءٌ مَكْسُورَةٌ مُشَدَّدَةٌ فَنُونٌ سَاكِنَةٌ، وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ، فَهُمَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ، وَقِرَاءَتَانِ سَبْعِيَّتَانِ صَحِيحَتَانِ.
وَأَبُو عَمْرٍو يَقِفُ عَلَى الْيَاءِ، وَالْبَاقُونَ يَقِفُونَ عَلَى النُّونِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: {أَهْلَكْتُهَا} بِتَاءِ الْمُتَكَلِّمِ الْمَضْمُومَةِ بَعْدَ الْكَافِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، وَالْبَاقُونَ بِنُونٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَ الْكَافِ، وَبَعْدَ النُّونِ أَلِفٌ، وَالْمُرَادُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ التَّعْظِيمُ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، وَقَرَأَ وَرْشٌ وَالسُّوسِيُّ وَبِيرٍ بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ يَاءً وَالْبَاقُونَ بِالْهَمْزَةِ السَّاكِنَةِ.
مَسْأَلَةٌ اعْلَمْ أَنَّ كَأَيِّنْ فِيهَا لُغَاتٌ عَدِيدَةٌ أَفْصَحُهَا الِاثْنَتَانِ اللَّتَانِ ذَكَرْنَاهُمَا، وَكَأَيِّنْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْيَاءِ الْمَكْسُورَةِ الْمُشَدَّدَةِ أَكْثَرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ كَمَا بَيَّنَّا، وَكَائِنٌ بِالْأَلِفِ وَالْهَمْزَةِ الْمَكْسُورَةِ أَكْثَرُ فِي شِعْرِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَقْرَأْ بِهَا مِنَ السَّبْعَةِ غَيْرُ ابْنِ كَثِيرٍ كَمَا بَيَّنَّا، وَمَعْنَى كَأَيِّنْ: كَمَعْنَى كَمِ الْخَبَرِيَّةِ، فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى الْإِخْبَارِ بِعَدَدٍ كَثِيرٍ وَمُمَيِّزُهَا لَهُ حَالَتَانِ:
الْأُولَى: أَنْ يُجَرَّ بِمِنْ وَهِيَ لُغَةُ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} [65/ 8] وَقَوْلِهِ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ} الْآيَةَ [3/ 146] {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الْآيَةَ [12/ 105]، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي جَرِّ مُمَيَّزِ كَأَيِّنْ بِمِنْ قَوْلُهُ:
وَكَائِنٌ بِالْأَبَاطِحِ مِنْ صَدِيقٍ ** يَرَانِي لَوْ أُصِيبُ هُوَ الْمُصَابَا

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُنْصَبَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
وَكَائِنٌ لَنَا فَضْلًا عَلَيْكُمْ وَمِنَّةً ** قَدِيمًا وَلَا تَدْرُونَ مَا مِنْ مُنْعِمِ

وَقَوْلُ الْآخَرِ:
اطْرُدِ الْيَأْسَ بِالرَّجَاءِ فَكَائِنٌ ** آلِمًا حُمَّ يُسْرُهُ بَعْدَ عُسْرِ

قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ:
كَكَمْ كَأَيِّنْ وَكَذَا وَيَنْتَصِبْ ** تَمْيِيزُ ذَيْنِ أَوْ بِهِ صِلْ مَنْ تُصِبْ

أَمَّا الِاسْتِفْهَامُ بِكَأَيِّنْ فَهُوَ نَادِرٌ وَلَمْ يُثْبِتْهُ إِلَّا ابْنُ مَالِكٍ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ، وَابْنُ عُصْفُورٍ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ ابْنُ مَالِكٍ بِمَا رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: كَأَيِّنْ تَقْرَأُ سُورَةَ الْأَحْزَابِ آيَةً فَقَالَ: ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ اهـ.
وَاخْتُلِفَ فِي كَأَيِّنْ هَلْ هِيَ بَسِيطَةٌ أَوْ مُرَكَّبَةٌ وَعَلَى أَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ فَهِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ كَافِ التَّشْبِيهِ، وَأَيِّ الْمُنَوَّنَةِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلِأَجْلِ تَرْكِيبِهَا جَازَ الْوَقْفُ عَلَيْهَا بِالنُّونِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ؛ لِأَنَّ التَّنْوِينَ لَمَّا دَخَلَ فِي التَّرْكِيبِ أَشْبَهَ النُّونَ الْأَصْلِيَّةَ، وَلِهَذَا رُسِمَ فِي الْمُصْحَفِ نُونًا وَقِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو بِالْوَقْفِ عَلَى الْيَاءِ لِأَجْلِ اعْتِبَارِ حُكْمِ التَّنْوِينِ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ حَذْفُهُ فِي الْوَقْفِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ- عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ-: الْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ كَأَيِّنْ بَسِيطَةٌ، وَأَنَّهَا كَلِمَةٌ وَضَعَتْهَا الْعَرَبُ لِلْإِخْبَارِ بِعَدَدٍ كَثِيرٍ نَحْوَ: كَمْ، إِذْ لَا دَلِيلَ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ عَلَى أَنَّ أَصْلَهَا مُرَكَّبَةٌ، وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهَا بَسِيطَةٌ: إِثْبَاتُ نُونِهَا فِي الْخَطِّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي نُونِ التَّنْوِينِ عَدَمُ إِثْبَاتِهَا فِي الْخَطِّ، وَدَعْوَى أَنَّ التَّرْكِيبَ جَعَلَهَا كَالنُّونِ الْأَصْلِيَّةِ دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ عَنِ الدَّلِيلِ، وَاخْتَارَ أَبُو حَيَّانَ أَنَّهَا غَيْرُ مُرَكَّبَةٍ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِتَلَاعُبِ الْعَرَبِ بِهَا فِي تَعَدُّدِ اللُّغَاتِ، فَإِنَّ فِيهَا خَمْسَ لُغَاتٍ اثْنَتَانِ مِنْهَا قَدْ قَدَّمْنَاهُمَا، وَبَيَّنَّا أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ سَبْعِيَّتَانِ؛ لِأَنَّ إِحْدَاهُمَا قَرَأَ بِهَا ابْنُ كَثِيرٍ وَالْأُخْرَى قَرَأَ بِهَا الْجُمْهُورُ، وَاللُّغَةُ الثَّالِثَةُ فِيهَا: كَأْيِنْ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ فَيَاءٌ مَكْسُورَةٌ، وَالرَّابِعَةُ كَيْئِنْ بِيَاءٍ سَاكِنَةٍ وَهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ، الْخَامِسَةُ: كَأَنْ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَنُونٍ سَاكِنَةٍ اهـ، وَلَقَدْ صَدَقَ أَبُو حَيَّانَ فِي أَنَّ التَّلَاعُبَ بِلَفْظِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ إِلَى هَذِهِ اللُّغَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْلَهَا بَسِيطَةٌ لَا مُرَكَّبَةٌ.
وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ: أَنَّ مَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ الْبِئْرَ الْمُعَطَّلَةَ، وَالْقَصْرَ الْمَشِيدَ مَعْرُوفَانِ، وَأَنَّهُمَا بِحَضْرَمَوْتَ، وَأَنَّ الْقَصْرَ مُشْرِفٌ عَلَى قُلَّةِ جَبَلٍ لَا يُرْتَقَى إِلَيْهِ بِحَالٍ، وَأَنَّ الْبِئْرَ فِي سَفْحِهِ لَا تُقِرُّ الرِّيَاحُ شَيْئًا سَقَطَ فِيهَا إِلَّا أَخْرَجَتْهُ، وَمَا يَذْكُرُونَهُ أَيْضًا مِنْ أَنَّ الْبِئْرَ هِيَ: الرَّسُّ، وَأَنَّهَا كَانَتْ بِعَدَنَ بِالْيَمَنِ بِحَضْرَمَوْتَ فِي بَلَدٍ يُقَالُ لَهُ: حَضُورُ، وَأَنَّهَا نَزَلَ بِهَا أَرْبَعَةُ آلَافٍ مِمَّنْ آمَنُوا بِصَالِحٍ، وَنَجَوْا مِنَ الْعَذَابِ وَمَعَهُمْ صَالِحٌ، فَمَاتَ صَالِحٌ، فَسُمِّيَ الْمَكَانُ حَضْرَمَوْتَ؛ لِأَنَّ صَالِحًا لَمَّا حَضَرَهُ مَاتَ فَبَنَوْا حَضُورَ وَقَعَدُوا عَلَى هَذِهِ الْبِئْرِ، وَأَمَّرُوا عَلَيْهِمْ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: الْعَلَسُ بْنُ جُلَاسِ بْنِ سُوَيْدٍ أَوْ جَلْهَسُ بْنُ جُلَاسٍ وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ فِيهِمْ عَامِلًا عَلَيْهِمْ، وَجَعَلُوا وَزِيرَهُ سَنْجَارِيبَ بْنَ سَوَادَةَ، فَأَقَامُوا دَهْرًا، وَتَنَاسَلُوا حَتَّى كَثُرُوا، وَكَانَتِ الْبِئْرُ تَسْقِي الْمَدِينَةَ كُلَّهَا وَبَادِيَتَهَا، وَجَمِيعُ مَا فِيهَا مِنَ الدَّوَابِّ وَالْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ لَهَا بَكَرَاتٌ كَثِيرَةٌ مَنْصُوبَةً عَلَيْهَا، وَرِجَالٌ كَثِيرُونَ مُوَكَّلُونَ بِهَا، وَحِيَاضٌ كَثِيرَةٌ حَوْلَهَا تُمْلَأُ لِلنَّاسِ وَحِيَاضٌ لِلدَّوَابِّ وَحِيَاضٌ لِلْغَنَمِ، وَحِيَاضٌ لِلْبَقَرِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَاءٌ غَيْرُهَا، وَآلَ بِهِمُ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ مَاتَ مَلِكُهُمْ وَطَلَوْا جُثَّتَهُ بِدُهْنٍ يَمْنَعُهَا مِنَ التَّغْيِيرِ، وَأَنَّ الشَّيْطَانَ دَخَلَ فِي جُثَّتِهِ، وَزَعَمَ لَهُمْ أَنَّهُ هُوَ الْمَلِكُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَمُتْ وَلَكِنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْهُمْ لِيَرَى صَنِيعَهُمْ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَضْرِبُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْجُثَّةِ حِجَابًا، وَكَانَ الشَّيْطَانُ يُكَلِّمُهُمْ مِنْ جُثَّةِ الْمَلِكِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ لِئَلَّا يَطَّلِعُوا عَلَى الْحَقِيقَةِ أَنَّهُ مَيِّتٌ، وَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتَّى كَفَرُوا بِاللَّهِ تَعَالَى فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا اسْمُهُ: حَنْظَلَةُ بْنُ صَفْوَانَ يُوحَى إِلَيْهِ فِي النَّوْمِ دُونَ الْيَقَظَةِ، فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَضَلَّهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ مَلِكَهُمْ قَدْ مَاتَ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَوَعَظَهُمْ وَنَصَحَ لَهُمْ، وَحَذَّرَهُمْ عِقَابَ رَبِّهِمْ، فَقَتَلُوا نَبِيَّهُمُ الْمَذْكُورَ فِي السُّوقِ، وَطَرَحُوهُ فِي بِئْرٍ فَعِنْدَ ذَلِكَ نَزَلَ بِهِمْ عِقَابُ اللَّهِ، فَأَصْبَحُوا وَالْبِئْرُ غَارَ مَاؤُهَا، وَتَعَطَّلَ رِشَاؤُهَا فَصَاحُوا بِأَجْمَعِهِمْ، وَضَجَّ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ حَتَّى مَاتَ الْجَمِيعُ مِنَ الْعَطَشِ، وَأَنَّ تِلْكَ الْبِئْرَ هِيَ الْبِئْرُ الْمُعَطَّلَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، كُلُّهُ لَا مُعَوِّلَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} [22/ 48] مَعْنَاهُ: الْإِخْبَارُ بِأَنَّ عَدَدًا كَبِيرًا مِنَ الْقُرَى أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِظُلْمِهِمْ، وَأَنَّ كَثِيرًا مِنْ آبَارِهِمْ بَقِيَتْ مُعَطَّلَةً بِهَلَاكِ أَهْلِهَا، وَأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْقُصُورِ الْمُشَيَّدَةِ بَقِيَتْ بَعْدَ هَلَاكِ أَهْلِهَا بِدُونِهِمْ؛ لِأَنَّ مُمَيَّزَ كَأَيِّنْ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ مُفْرَدًا فَمَعْنَاهُ يَشْمَلُ عَدَدًا كَثِيرًا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي مَحَلِّهِ.
وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ وَعَنِ الْإِمَامِ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ قَبْرَ صَالِحٍ بِالشَّامِ فِي بَلْدَةٍ يُقَالُ لَهَا: عَكَّا فَكَيْفَ يَكُونُ بِحَضْرَمَوْتَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ دِيَارَ قَوْمِ صَالِحٍ الَّتِي أُهْلِكُوا فِيهَا مَعْرُوفَةٌ يَمُرُّ بِهَا الذَّاهِبُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الشَّامِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْحِجْرِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِهَا فِي طَرِيقِهِ إِلَى تَبُوكَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَمِنَ الْمُسْتَبْعَدِ أَنْ يَقْطَعَ صَالِحٌ، وَمَنْ آمَنَ مِنْ قَوْمِهِ هَذِهِ الْمَسَافَةَ الطَّوِيلَةَ الْبَعِيدَةَ مِنْ أَرْضِ الْحِجْرِ إِلَى حَضْرَمَوْتَ مِنْ غَيْرِ دَاعٍ يَدْعُوهُ وَيَضْطَرُّهُ إِلَى ذَلِكَ، كَمَا تَرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

.تفسير الآية رقم (46):

{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} بَيَّنَ اللَّهُ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ الَّذِينَ كَذَّبُوا نَبِيَّنَا- صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ-، يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا، أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا سَافَرُوا مَرُّوا بِأَمَاكِنِ قَوْمِ صَالِحٍ، وَأَمَاكِنِ قَوْمِ لُوطٍ، وَأَمَاكِنِ قَوْمِ هُودٍ، فَوَجَدُوا بِلَادَهُمْ خَالِيَةً وَآثَارَهُمْ مُنْطَمِسَةً لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ، لِتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُمْ، وَكُفْرِهِمْ بِرَبِّهِمْ، فَيُدْرِكُونَ بِعُقُولِهِمْ: أَنَّ تَكْذِيبَهُمْ نَبِيَّهُمْ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يُسَبِّبَ لَهُمْ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مِثْلَ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ الَّذِينَ مَرُّوا بِمَسَاكِنِهِمْ خَالِيَةً، قَدْ عَمَّ أَهْلَهَا الْهَلَاكُ، وَتَكُونُ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَلَى نَبِيِّهِ مِنْ أَخْبَارِ تِلْكَ الْأُمَمِ، وَمَا أَصَابَهَا مِنَ الْإِهْلَاكِ الْمُسْتَأْصِلِ وَالتَّدْمِيرِ، فَيَحْذَرُوا أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مِثْلُ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ.
وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [47/ 10] ثُمَّ بَيَّنَ تَهْدِيدَهُ لِكُفَّارِ مَكَّةَ بِمَا فَعَلَ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [47/ 10] وَكَقَوْلِهِ فِي قَوْمِ لُوطٍ: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [37/ 137- 138]
وَكَقَوْلِهِ فِيهِمْ: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} الْآيَةَ [15/ 76]، وَكَقَوْلِهِ فِي قَوْمِ لُوطٍ وَقَوْمِ شُعَيْبٍ: {أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} [50/ 14] {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} [15/ 79]؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْآيَتَيْنِ: أَنَّ دِيَارَهُمْ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ الَّذِي يَمُرُّونَ فِيهِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالسَّبِيلِ وَالْإِمَامِ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْهَا جُمَلًا كَافِيَةً فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَغَيْرِهَا.
وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الْعَقْلِ: فِي الْقَلْبِ، وَمَحَلَّ السَّمْعِ: فِي الْأُذُنِ، فَمَا يَزْعُمُهُ الْفَلَاسِفَةُ مِنْ أَنَّ مَحَلَّ الْعَقْلِ الدِّمَاغُ بَاطِلٌ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعَقْلَ لَا مَرْكَزَ لَهُ أَصْلًا فِي الْإِنْسَانِ؛ لِأَنَّهُ زَمَانِيٌّ فَقَطْ لَا مْكَانِيٌّ فَهُوَ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ وَالْبُطْلَانِ كَمَا تَرَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} الْآيَةَ [17/ 72]، مَعَ بَعْضِ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.

.تفسير الآية رقم (47):

{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} ذَكَرَ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ يَطْلُبُونَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْجِيلَ الْعَذَابِ الَّذِي يَعِدُهُمْ بِهِ طُغْيَانًا وَعِنَادًا.
وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [38/ 16] وَقَوْلِهِ: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [29/ 54] وَقَوْلِهِ: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} الْآيَةَ [29/ 53].
وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} [6/ 57] وَفِي يُونُسَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} [10/ 15] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَعْدِ هُنَا: هُوَ مَا أَوْعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي يَسْتَعْجِلُونَ نُزُولَهُ.
وَالْمَعْنَى: هُوَ مُنْجِزٌ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَإِذَا جَاءَ الْوَقْتُ الْمُحَدَّدُ لِذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [29/ 53] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [11/ 8] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [10/ 51] وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْوَعْدَ يُطْلَقُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْوَعْدِ بِالشَّرِّ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [22/ 72] فَإِنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي النَّارِ: {وَعَدَهَا اللَّهُ} بِصِيغَةِ الثُّلَاثِيِّ الَّذِي مَصْدَرُهُ الْوَعْدُ، وَلَمْ يَقُلْ أَوْعَدَهَا وَمَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، مِنْ أَنَّ مَا وَعَدَ بِهِ الْكُفَّارَ مِنَ الْعَذَابِ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، وَأَنَّهُ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ بِذَلِكَ، جَاءَ مُبَيَّنًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ ق قَالَ: {لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} الْآيَةَ [50/ 28] وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ أَنَّ مَا أَوْعَدَ الْكُفَّارَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، لَا يُبَدَّلُ لَدَيْهِ، بَلْ هُوَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} [50/ 14] أَيْ: وَجَبَ وَثَبُتَ فَلَا يُمْكِنُ عَدَمُ وُقُوعِهِ بِحَالٍ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} [38/ 14] كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي كِتَابِنَا: دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} الْآيَةَ [6/ 128]، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ مَا أُوعِدُ بِهِ الْكُفَّارُ لَا يُخْلَفُ بِحَالٍ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ، أَمَّا مَا أُوعِدَ بِهِ عُصَاةُ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ الَّذِي يَجُوزُ أَلَّا يُنَفِّذَهُ وَأَنْ يَعْفُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} الْآيَةَ [4/ 48].
وَبِالتَّحْقِيقِ الَّذِي ذَكَرْنَا: تَعْلَمُ أَنَّ الْوَعْدَ يُطْلَقُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَمَا بَيَّنَّا، وَإِنَّمَا شَاعَ عَلَى أَلْسِنَةِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ، مِنْ أَنَّ الْوَعْدَ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْوَعْدِ بِخَيْرٍ وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي لَا يُخْلِفُهُ اللَّهُ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُتَوَعَّدُ بِهِ شَرًّا، فَإِنَّهُ وَعِيدٌ وَإِيعَادٌ، قَالُوا: إِنَّ الْعَرَبَ تَعُدُّ الرُّجُوعَ عَنِ الْوَعْدِ لُؤْمًا، وَعَنِ الْإِيعَادِ كَرَمًا، وَذَكَرُوا عَنِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، فَجَاءَهُ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ فَقَالَ: يَا أَبَا عَمْرٍو، هَلْ يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ؟ فَقَالَ: لَا، فَذَكَرَ آيَةَ وَعِيدٍ، فَقَالَ لَهُ: أَمِنَ الْعَجَمِ أَنْتَ؟ إِنَّ الْعَرَبَ تَعُدُّ الرُّجُوعَ عَنِ الْوَعْدِ لُؤْمًا وَعَنِ الْإِيعَادِ كَرَمًا، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
وَلَا يَرْهَبُ ابْنُ الْعَمِّ وَالْجَارُ سَطْوَتِي ** وَلَا انْثَنَى عَنْ سَطْوَةِ الْمُتَهَدِّدِ

فَإِنِّي وَإِنْ أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ ** لَمُخْلِفٌ إِيعَادِي وَمُنْجِزٌ مَوْعِدِي

فِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ.
الْأَوَّلُ: هُوَ مَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا مِنْ إِطْلَاقِ الْوَعْدِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى التَّوَعُّدِ بِالنَّارِ، وَالْعَذَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [22/ 72] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} [22/ 47]؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ الَّذِي لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ، وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ فِي حُلُولِ الْعَذَابِ الَّذِي يَسْتَعْجِلُونَكَ بِهِ لَهُمْ، لِأَنَّهُ مُقْتَرِنٌ بِقَوْلِهِ: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} [22/ 47] فَتَعَلُّقُهُ بِهِ هُوَ الظَّاهِرُ.
الثَّانِي: هُوَ مَا بَيَّنَّا أَنَّ مَا أَوْعَدَ اللَّهُ بِهِ الْكُفَّارَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُخْلِفَهُ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ ادِّعَاءَ جَوَازِ إِخْلَافِهِ، لِأَنَّهُ إِيعَادٌ وَأَنَّ الْعَرَبَ تَعُدُّ الرُّجُوعَ عَنِ الْإِيعَادِ كَرَمًا يُبْطِلُهُ أَمْرَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ جَوَازُ أَلَّا يَدْخُلَ النَّارَ كَافِرٌ أَصْلًا، لِأَنَّ إِيعَادَهُمْ بِإِدْخَالِهِمُ النَّارَ مِمَّا زَعَمُوا أَنَّ الرُّجُوعَ عَنْهُ كَرَمٌ، وَهَذَا لَا شَكَّ فِي بُطْلَانِهِ.
الثَّانِي: مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ: عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ مَا أَوْعَدَ بِهِ الْكُفَّارَ مِنَ الْعَذَابِ، كَقَوْلِهِ: {قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} الْآيَةَ [50/ 28- 29] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِمْ: {فَحَقَّ وَعِيدِ} [50/ 14] وَقَوْلِهِ فِيهِمْ: {فَحَقَّ عِقَابِ} [38/ 14] وَمَعْنَى حَقَّ: وَجَبَ وَثَبَتَ، فَلَا وَجْهَ لِانْتِفَائِهِ بِحَالٍ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ هُنَا وَفِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} بَيَّنَ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْيَوْمَ عِنْدَهُ- جَلَّ وَعَلَا- كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا يَعُدُّهُ خَلْقُهُ، وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ كَوْنِ الْيَوْمِ عِنْدَهُ كَأَلْفِ سَنَةٍ، أَشَارَ إِلَيْهِ فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ بِقَوْلِهِ: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [32/ 5] وَذَكَرَ فِي سُورَةِ الْمَعَارِجِ أَنَّ مِقْدَارَ الْيَوْمِ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} الْآيَةَ [70/ 4]، فَآيَةُ الْحَجِّ، وَآيَةُ السَّجْدَةِ مُتَوَافِقَتَانِ تُصَدِّقُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْأُخْرَى، وَتُمَاثِلُهَا فِي الْمَعْنَى، وَآيَةُ الْمَعَارِجِ تُخَالِفُ ظَاهِرَهُمَا لِزِيَادَتِهَا عَلَيْهِمَا بِخَمْسِينَ ضِعْفًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي كِتَابِنَا: دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ، وَسَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ هُنَا مُلَخَّصًا مُخْتَصَرًا، وَنَزِيدُ عَلَيْهِ بَعْضَ مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ.
فَقَدْ ذَكَرْنَا مَا مُلَخَّصُهُ: أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ رَوَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّهُ حَضَرَ كُلًّا مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَاتِ: فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُهُ فِيهَا، وَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، ثُمَّ ذَكَرْنَا أَنَّ لِلْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: هُوَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَنَّ يَوْمَ الْأَلْفِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ: هُوَ أَحَدُ الْأَيَّامِ السِّتَّةِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَيَوْمُ الْأَلْفِ فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ، هُوَ مِقْدَارُ سَيْرِ الْأَمْرِ وَعُرُوجِهِ إِلَيْهِ تَعَالَى وَيَوْمُ الْخَمْسِينَ أَلْفًا، هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِجَمِيعِهَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ اخْتِلَافَ زَمَنِ الْيَوْمِ إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ حَالِ الْمُؤْمِنِ، وَحَالِ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَخَفُّ عَلَى الْمُؤْمِنِ مِنْهُ عَلَى الْكَافِرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [74/ 9- 10] اهـ، ذَكَرَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ صَاحِبُ الْإِتْقَانِ.
وَذَكَرْنَا أَيْضًا فِي كِتَابِنَا: دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [25/ 24] مَا مُلَخَّصُهُ: أَنَّ آيَةَ الْفُرْقَانِ هَذِهِ تَدُلُّ عَلَى انْقِضَاءِ الْحِسَابِ فِي نِصْفِ نَهَارٍ؛ لِأَنَّ الْمَقِيلَ الْقَيْلُولَةُ أَوْ مَكَانُهَا وَهِيَ الِاسْتِرَاحَةُ نِصْفُ النَّهَارِ فِي الْحَرِّ، وَمِمَّنْ قَالَ بِانْقِضَاءِ الْحِسَابِ فِي نِصْفِ نَهَارٍ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَعِكْرِمَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ لِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ، عَلَى ذَلِكَ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ.
وَفِي تَفْسِيرِ الْجَلَالَيْنِ مَا نَصُّهُ: وَأُخِذَ مِنْ ذَلِكَ انْقِضَاءُ الْحِسَابِ فِي نِصْفِ نَهَارٍ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ انْتَهَى مِنْهُ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّ مِقْدَارَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [70/ 4] وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بِلَا خِلَافٍ فِي ذَلِكَ.
وَالظَّاهِرُ فِي الْجَوَابِ: أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَطُولُ عَلَى الْكُفَّارِ وَيَقْصُرُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَيُشِيرُ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا بِقَلِيلٍ: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [25/ 26] فَتَخْصِيصُهُ عُسْرَ ذَلِكَ الْيَوْمَ بِالْكَافِرِينَ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسُوا كَذَلِكَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
{فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [74/ 9- 10] يَدُلُّ بِمَفْهُومِ مُخَالَفَتِهِ عَلَى أَنَّهُ يَسِيرٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ عَسِيرٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ}.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَنْبَأَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ: أَنَّ سَعِيدًا الصَّوَّافَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقْصُرُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، حَتَّى يَكُونَ كَمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَأَنَّهُمْ يَتَقَلَّبُونَ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يُفْرَغَ مِنَ النَّاسِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [25/ 24] وَنَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَ الْمَقِيلَ فِي الْآيَةِ بِأَنَّهُ الْمَأْوَى وَالْمَنْزِلُ كَقَتَادَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-، فَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ لِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ كَانَ فِي سُرُورٍ وَنِعْمَةٍ، أَنَّهُ يَقْصُرُ عَلَيْهِ الزَّمَنُ الطَّوِيلُ قَصْرًا شَدِيدًا، بِخِلَافِ مَنْ كَانَ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ وَالْبَلَايَا وَالْكُرُوبِ، فَإِنَّ الزَّمَنَ الْقَصِيرَ يَطُولُ عَلَيْهِ جِدًّا، وَهَذَا أَمْرٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِنَا الْمَذْكُورِ بَعْضَ الشَّوَاهِدِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَرْثِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَرِقْتُ فَبَاتَ لَيْلِي لَا يَزُولُ ** وَلَيْلُ أَخِي الْمُصِيبَةِ فِيهِ طُولُ

وَقَوْلِ الْآخَرِ:
فَقِصَارُهُنَّ مَعَ الْهُمُومِ طَوِيلَةٌ ** وَطِوَالُهُنَّ مَعَ السُّرُورِ قِصَارُ

وَقَوْلِ الْآخَرِ:
لَيْلَى وَلَيْلِي نَفَى نَوْمِي اخْتِلَافَهُمَا ** فِي الطُّولِ وَالطُّولُ طُوبَى لِي لَوِ اعْتَدَلَا

يَجُودُ بِالطُّولِ لَيْلِي كُلَّمَا بَخِلَتْ ** بِالطُّولِ لَيْلَى وَإِنْ جَادَتْ بِهِ بَخِلَا

وَنَحْوُ هَذَا كَثِيرٌ جِدًّا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْ أَظْرَفِ مَا قِيلَ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ قَالَ:
لَا أَسْأَلُ اللَّهَ تَغْيِيرًا لِمَا فَعَلَتْ ** نَامَتْ وَقَدْ أَسَهَرَتْ عَيْنَيَّ عَيْنَاهَا

فَاللَّيْلُ أَطْوَلُ شَيْءٍ حِينَ أَفْقِدُهَا ** وَاللَّيْلُ أَقْصَرُ شَيْءٍ حِينَ أَلْقَاهَا

وَقَدْ وَرَدَ بَعْضُ الْأَحَادِيثِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ظَاهِرِ آيَةِ الْحَجِّ، وَآيَةِ السَّجْدَةِ.
وَسَنَذْكُرُ هُنَا طَرَفًا مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ ابْنِ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ الْحَجِّ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، حَدَّثَنِي عَبَدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَدْخُلُ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْمٍ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفًا فَقَالَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، ثَنَا سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ سُمَيْرِ بْنِ نَهَارٍ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يَدْخُلُ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ، بِمِقْدَارِ نِصْفِ يَوْمٍ، قُلْتُ: وَمَا مِقْدَارُ نِصْفِ يَوْمٍ؟ قَالَ: أَوَ مَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: بَلَى قَالَ: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [22/ 47] وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي آخِرِ كِتَابِ الْمَلَاحِمِ مِنْ سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنِي صَفْوَانُ عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنِّي لَأَرْجُو أَلَّا تَعْجِزَ أُمَّتِي عِنْدَ رَبِّهَا أَنْ يُؤَخِّرَهُمْ نِصْفَ يَوْمٍ» قِيلَ لِسَعْدٍ: وَكَمْ نِصْفُ يَوْمٍ؟ قَالَ: خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [22/ 47] قَالَ: مِنَ الْأَيَّامِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ بَشَّارٍ، عَنِ ابْنِ الْمَهْدِيِّ وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [32/ 5] اهـ. مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنَ ابْنِ كَثِيرٍ، وَظَوَاهِرُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي سَاقَ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ أَصْلَ الْيَوْمِ كَأَلْفِ سَنَةٍ، وَلَكِنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ يَقْصُرُ وَيَخِفُّ، حَتَّى يَكُونَ كَنِصْفِ نَهَارٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: {كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا يَعُدُّونَ} بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ تَعُدُّونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاضِحٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} تَقَدَّمَتْ قَرِيبًا الْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ لِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَإِلَى قَوْلِهِ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [22/ 44- 45].